الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة السلام على أشْرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آلِه وصحْبه أجمعين.
أما بعدُ:
عندما يُسيء الغرْبُ لأمَّتنا في مقدَّساتها، أو التحيُّز لأعدائها في قضيَّة تهم المسلمين، وتستفزُّ مشاعرهم، يكون من الأولويات بعد الاستنكار والتنديد المقاطَعة الاقتصادية، التي أثبتتْ فعاليتها وقوتها المؤثِّرة على الدول والشركات، والتي غيَّرت الكثير من المواقف والتصريحات.
ولو نَظَرْنا إلى المقاطَعة الإسلامية خلال الفتْرة الماضية، نجدها كانت ضد الكيان الصِّهْيَوْني، ثم الولايات المتحدة الأمريكية، الداعم والحامي الرئيسي للكيان الصِّهْيَوْني الغاصب، وبعض الشركات الإسرائيلية، أو التي تدعم الكيان الصِّهيوني، ثم جاءت الإساءة الدانمركية للرسول - صلى الله عليه وسلم- بنشْر إحدى الصحف الدانمركية رسومًا كاريكاتورية، تُسيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصوِّره في رسوم مسيئة مشينة - حاشاه صلى الله عليه وسلم عنها - وشَهد العالَم على إثْرها مقاطعة لا مثيل لها في التاريخ، فلقد هَبَّت الشعوبُ الإسلامية كلها في نُصرة خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم.
والمقاطعة تقوم على مبدأ: (مصائب قوم عند قوم فوائد)، فالمستفيد من المقاطعة شركات ودول أخرى، قد لا تقِل عداوة أو كفْرًا عن غَيْرها؛ كالصين، وروسيا، والهند، وألمانيا، وغيرها من الدول أو الشركات الكبرى.
وعلى كل حال فالكفْر ملة واحدة؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].
هذا جانب، والجانب الآخر هو الوسائل والأساليب التي تتبعها الدول والشركات للتخفيف من آثار المقاطَعة، ومنها على سبيل المثال:
1 - تغيير اسم بلد المنشأ، فتقوم الشَّرِكة بتَغْيير اسم البلد فقط والماركة؛ لتنجوَ من المقاطَعة.
(هذا ما حصل مع الدانمرك؛ حيث غيرت اسم بلد المنشأ إلى صُنِع في الاتِّحاد الأوروبي).
2 - إقامة مصانع لنفْس المنتجات في دول أخرى محايدة أو غير مقاطعة، وتستمر بنفْس الماركة أو ماركة أخرى.
3 - طول أمد المقاطعة، فالمقاطعة قد تستمر أشهرًا أو سنوات، ثم ماذا بعد ذلك؟ يخفت الصوت، وتُنسى القضية، ويصيب المقاطعة الفتور، وتعود الأمور كما هي إن لم تكنْ أحسن، فكل ممنوع مرغوب؛ كما حدث مع المقاطعة للبضائع الأمريكية والشركات الداعمة للكيان الصهيوني.
4 - البحث عن أسْواق جديدة في مناطق أخرى، وما سوف يفقدونه هنا سيعوضونه هناك.
وأكْتفي بهذه الأساليب، وإن كانت هناك غيرها، ولكن ليست بمثْل أهمية ما ذُكِر، مثل: التَّخفيضات، والبازارات، ودعْم المنظمات الخيرية، وغيرها.
إذًا؛ ما هو المطلوب؟ وكيف يُمكن لنا أن نصبحَ ذَوِي وزنٍ، يضرب لنا الجميعُ ألف حساب قبل أية إساءة؟ خصوصًا وأنَّ مُسلسل الإساءة انْتَشَر بنَشْر كثيرٍ من الصُّحُف الأوروبيَّة الرسوم المسيئة، وهَبْ أنَّ كل الدول الكافِرة نشرتْ هذه الرسوم أو غيرها مِن أشكال الإساءة، هل سنقاطعها كلها وليس لدينا البديل؟ وشيء آخر هو ما قاله السفير الدانمركي في الجزائر حين قال: إنَّ المسلمين لا ينتجون فكيف يقاطعون؟ وصَدَق وهو كَذُوب.
والأيام القادمة تدل على تصعيد متسلْسل ومنظّم ومتناسِق من الإساءات، والتهجُّم على دين الأمة ومقدَّساتها.
وأجملُ ما يُمكننا القيام به في نقاط هو البداية الحقيقيَّة للنُّهوض الحضاري للأمَّة المسلمة:
1- دعم الصناعات المحليَّة الموجودة في بلاد الإسلام، والتي يُديرها ويموِّلها مسلمون، وتعود الأرباح لمسلمين قد لا يدعمون إخوانهم؛ لكنهم لا يُحاربونهم على أقل تقدير، فذهاب الرِّبح إلى مسلم لا يساند إخوانه، أهْون من ذهابِه إلى عدوٍّ يتربَّص بنا الدوائر، ويمسك بخناق الاقتصاد العالمي.
2- وضْع دراسات لإنشاء مشاريع استثمارية واقتصادية تصْنَع للمسلمين ما يحتاجون إليه؛ من مأكلٍ وملبس ومركبٍ، وغيرها من لوازِم الحياة المختلفة، ويمكن تمويل هذه الدراسات من التبرُّعات التي يمكن أن تجمعَ لنُصْرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولنُصْرة الإسلام، ولا بدَّ مِن وُجُود مؤسسات خيريَّة تدعم هذا الأمر وتتبنَّاه، أو تنشأ لأجله، لتعزيز واقِع المقاطَعة من جهة، والنهُوض بالأمة الإسلاميَّة صناعيًّا مِن جِهة أخرى.
3- دعم وحَثُّ أصحاب الأموال العَرَب والمسلمين للاستثْمار في بلدان ودول إسلامية، مع ما تقدمه هذه الدول من تسْهيلات كبيرة، وامتيازات هامة، مثل: إعطاء أرض المشروع مجانًا، وإعفاءات الضرائب والجمارك طويلة الأمد، وغيرها منَ الامْتِيازات، فيتم دعْم المقاطَعة، ونُحقق منتجًا إسلاميًّا، ونقضي على البَطَالة في أوْساط المسلمين، وغيرها من الفوائد الاقتصادية والإسْتراتيجيَّة.
4- دعْم وتشْكيل التعاوُنيات والمشاريع الصغيرة والأصغر؛ لتنهضَ بواجِبها في عمليَّة النهوض الحضاري للأمة، وتسد جزءًا من احتياجاتنا اليومية - ولو بكلْفة أعلى - وتقع مسؤولية دعْم هذه التعاونيات على أهْل الخير والتبرُّعات والبنوك الإسلاميَّة، ودعمًا إسْتراتيجيًّا منَ الحُكُومات.
5- تربية النَّشْء على القناعة والاكتفاء الذاتي، ومحاوَلة صنْع ما يحتاجونه بأنفسهم؛ كاللعَب وغيرها؛ تمهيدًا لخَلْق جِيلٍ مُبتكر، لا يعتمد على ما يُقدَّم له في الأسواق من أشياء جاهزة؛ لكن يسهم في صناعتها، وهذا أمْرٌ مهم لبناء جيل يعتمد على نفسه لا غيره، وتعويد الفتيات على فُنُون الخياطة والتطريز مثلاً، ولْتقل كل فتاة مسلمة: أنا سأكفي أسرتي من الملابس، فلا نحتاج إلى شيءٍ مستورد، والشابُّ المسلم عليه أن يكفيَ أسرته من متطلبات المنزل من أدوات وغيرها، ونحو ذلك، وإن كانت هذه الأشياء أقل جوْدة من مثيلاتها أو جمالاً ؛ إلا أنها لبنة في طريق النهُوض الصناعي الإسلامي.
6- دعم وتشْجيع الشباب - وخاصَّة الشبابَ الجامعي - ومَن يبرز منهم من أصحاب النبوغ والتفوُّق ودعْم مشاريعهم وتشجيعها؛ لتؤتي ثمارها يانِعة، ولتسهم بخطْوة نحو الاكتِفاء الذاتي في كلِّ مجالات الحياة.
هذه بعْض الأفكار، وأنا على يقين أنَّ لدى المتخَصّصِين أضعافَها، ويجب البدْء بهذه الحَمْلة بتنسيق كامل مع زخم المقاطعة؛ حتى تجد مَن يَتَفاعَل معها ويباركها، ويساهم فيها كلٌّ مِن موقعه، ولكَم رأينا في أزمة الرسوم المسيئة من تفاعُل كبير من رجال الأعمال والأغنياء، وما بذلوه من أموالهم نصرةً لخاتم الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- بارك الله فيهم، وجعل ذلك في موازين حسناتهم.
فالبدء في تناسُق وتناغُم مع حملات المقاطَعة سيُعطي هذه الأفْكار وغيرها الزخم اللازم والتفاعل، قبل أن تخمد العواطف وتخبوَ الهِمَم والعزائِم.
وعلينا أن نبدأ - على الأقل - بوضْع الدِّراسات والخطط؛ لتنفيذ مثل هذه الأفكار، وأن نبدأ في صناعة الحدث بدلاً مِن أن نظلَّ ندور ما بين الفِعل وردة الفعل.
ولْتَصْنع الشعوب الإسلامية بمساعدة الحكومات أو بدونها فيما بينها سوقًا إسلامية مشتركة، يؤازِر بعضها بعضًا، وينفع بعضها بعضًا بالأفكار والمقترحات، والمساعدات الفنية والمادية وغيرها، خصوصًا أن الإساءات بدأتْ ولن تنتهي - كما يُلاحَظ - وكما أخبرنا الله - سبحانه - عنهم بقوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
هذا غيضٌ من فيض، والأفكار بِعَدَد أنفاسنا، إن استطعْنا استغلالها والإفادة منها.
اللهم قد بلغْت، اللهم فأشْهد، اللهم أَلْهِم أمَّتنا الرشْد لتعود إلى سيادتها وريادتها، شهيدة على الأمم وقائدة لها، وارْفَع شأنها، واقمعْ شانئها، وأنت على كل شيء قدير، وأسأله الله سبحانه أن يلهمَنا رشدنا، وألا يكونَ حالُنا كمن قال:
أَمَرْتُهُمُ أمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى *** فَلَمْ يَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إلِاَّ ضُحَى الْغَدِ
سبحانك ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.