قراءة في ديوان: "يا قدس إنا قادمون"
للشاعر الفلسطيني/ محمد عبدالرازق أبو مصطفى
عندما تختلط الروح بذرَّات الوطن، وإذا كان ذلك الوطن هو البُقْعة المباركة فلسطين، بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، فهل يبقى لشيء آخَر مساحة في تلك الرُّوح، وداخل ذلك القلب النَّابض بالحب؟! إنَّه الحبُّ الذي يطير بصاحبِه ليعْبُر به الحدود والصَّحاري، ليبقى في عناقٍ دائم مع البقعة المباركة، فلا يشغل عقله شيء سوى ذلك.
إنَّه الشَّاعر الفلسطيني الكبير/ محمَّد عبدالرازق أبو مصطفى، في ديوانه الرَّائع: "يا قدس إنَّا قادمون"، لَم يُزاحم قلبَهُ ووجدانَه غيرُ حبِّه للقدْسِ والمسجِد الأقصى وفلسطين، لتشكِّل مُفْردات هذا الدِّيوان مع الانتِفاضة والطفل، وحَماس وكتائب عزِّ الدين القسَّام، ووقفات مع شيخ الشهداء أحمد ياسين - رحِمه الله - في تناغُم يعكِس مدى الألم، واتِّساع الأمل وأعْراس الشهادة، ينفُثها قطفات ملْتهِبة من غضب البُركان العربي الإسلامي الثَّائر.
يرسم لنا الطَّريق إلى القُدْس، والنِّداء يعمر الأرْجاء تصديقًا لكلِّ النُّبوءات التي جعلت القدس مِحْور كلِّ الصِّراعات، والنقْطة التي تلتقي عندها كلُّ الطُّرق ليملأ الآفاق النِّداء الخالد: "يا قدس إنَّا قادمون".
فِي وَجْهِكَ الوَضَّاءِ كُلُّ شُمُوعِنَا ** وَدُمُوعِنَا وَحُرُوفِنَا، أَنْتَ الأَحَبّْ
أَطْلَقْتَ فِينَا صَرْخَةً لا تَنْتَهِ ** يَا صَرْخَةَ الحُبِّ المُجَلَّلِ بِالغَضَبْ
يَا طَلْعَةَ الإِسْرَاءِ فِي قُرْآنِنَ ** يَا طَلْقَةَ الأَرْوَاحِ تَخْتَرِقُ الحُجُبْ
فَلأَجْلِ عَيْنَيْكَ الحَبِيبَةِ دَائِمًا ** سَنَظَلُّ نَكْتُبُ بِالدِّمَاءِ وَبِاللَّهَبْ [1]
فَلأجل عيني القدس تُبْذَل المهج، ويرخص في سبيلها كل غالٍ، ويبتدئ نحوها الطريق.
هَذِي عُيُونُ القُدْسِ تَلْقَانَا عَلَى
وَضَحِ النَّهَارِ وَفِي دُجَى اللَّيْلِ العَمِيقْ
فِي كُلِّ أَرْجَاءِ الدُّنَا
فِي كُلِّ مُتَّسَعٍ وَضِيقْ
وَإِذَا نَفِرُّ إِلَى طَرِيقْ
تَطْوِي لَنَا سَفَرَ الطَّرِيقْ
هَذِي عُيُونُ القُدْسِ
نَفْدِيهَا بِحَبَّاتِ العُيُونْ
وَإِذَا أَحَاطَ بِهِ حَرِيقْ
نُلْقِي بِهَا أَرْوَاحَنَا
حُبًّا، وَلا نَخْشَى الحَرِيقْ [2]
ويتداخل حب الوطن مع شغاف الرُّوح، وتتداخل مع حبَّات البرتقال وظلال اللوز والزيتون، في تناغمٍ لا يُعْرف له مثيل، فكيف للمتآمِرِين مهْما حاولوا أن يفصلوا بين الجسد والرُّوح.
مَنْ قَالَ إِنَّ تَآمُرَ الأَحْقَادِ
يَخْلَعُ مِنْ أَهَازِيجِ الشَّقَائِقِ وَجْهَهَا
أَوْ يَقْتُلُ الأَرْجَاءَ عِطْرًا
قَدْ تَدَفَّقَ فِي شُمُوسِ البُرْتُقَالْ
أَوْ يَجْرُفُ الأَجْفَانَ وَالأَحْدَاقَ
مُذْ صَارَتْ ظِلالُ اللُّوزِ
وَالزَّيْتُونِ تَرْعَاهَا العُيُونْ
حَتَّى وَإِنْ خَلَعُوا هَوَى
الوَطَنِ المُقَدَّسِ مِنْ
قُلُوبِ العَاشِقِينْ
فَمُحَالُ مَهْمَا حَاوَلُوا أَنْ يَخْلَعُوا
عِشْقَ المُحِبِّينَ احْتِرَاقًا
مِنْ فُؤَادِكَ يَا وَطَنْ [3]
إنَّه الوطن يصوِّره الشَّاعر إنسانًا يُبادل أحبابه الحبَّ والعِشْق، حتَّى وإن خلعوا من المحبِّين حبَّه، فمن المحال أن يَخلعوا هوى العاشقين من فؤاده.
وتهزُّ الشاعرَ مظاهرُ الصُّلح الزَّائف والخونة، يَبيعون مقدَّسات الأمَّة وأعزَّ ما تملك، قُدْسها ومسجِدها الأقْصى تحت دعاوى السَّلام، ويَرى النَّصْر قريبًا يطلُّ من وراء الجراح:
بُشْرَى اقْتِرَابِ النَّصْرِ فِي وِجْدَانِي ** لَهَبٌ يُؤَجِّجُ أَضْلُعِي وَكِيَانِي
وَيَشُدُّ نَارَ الشَّمْسِ مِنْ أَجْفَانِهَا ** لِتَصُبَّهَا حُمَمًا رُؤَى أَجْفَانِي
يَا أَيُّهَا الجُرْحُ العَمِيقُ مَدَى المَدَى ** هَيَّا لِنَهْتِكَ وَصْمَةَ الخِذْلانِ
لَمْ يَبْقَ ثَانِيَةٌ لِصُلْحٍ بَعْدَمَا ** بِيعَتْ قَدَاسَةُ مَسْجِدِي لِلجَانِي
يَا جُرْحُ كَيْفَ تُبَاعُ قُدْسِي خِدْعَةً ** لِلكَافِرِينَ بِذِلَّةٍ وَهَوَانِ؟! [4]
وكان اغتِيال شيخ المجاهدين أحمد ياسين - رحمه الله - بركانًا فجَّر مشاعر الأمَّة، وأزاح عنْها شيئًا من سُباتِها، ويرسم لنا الشَّاعر مشاعِره في هدْأة الفجر، مرسِلاً عزاءَه لغزَّة الباسِلة ولكل بقاع المسلمين:
فِي هَدْأَةِ الفَجْرِ الحَزِينِ لِقَاءُ ** ضَجَّتْ لَهُ الآفَاقُ وَالأَرْجَاءُ
شَيْخُ الجِهَادِ يَجُودُ فَيْضُ دِمَائِهِ ** لِتَهُزَّنَا فِي نَعْيِهِ الأَصْدَاءُ
وَامْتَدَّ فِينَا أَلْفُ جُرْحٍ غَامِضٍ ** وَاشْتَدَّ فِي آهَاتِنَا الإِعْيَاءُ
وَغَدَتْ خُطَانَا كَالصُّخُورِ ثَقِيلَةً ** مِنْ بَعْدِ أَنْ عَصَفَتْ بِنَا الأَنْبَاءُ [5]
مرسلاً عزاءه لغزَّة الباسلة، لتضمَّ ذلك الجسد الطَّاهر بكلِّ الحبِّ والحنان.
يَا غَزَّةَ الأَحْرَارِ ضُمِّي شَيْخَنَا ** حُبًّا يُكَلِّلُهُ الهَوَى المِعْطَاءُ
جُودِي عَلَيْهِ مِنَ الدُّمُوعِ مَنَابِعًا ** لِيَفِيضَ مِنْ أَكْبَادِنَا الإِيحَاءُ [6]
ولا يفتُّ في عضده استِشْهاد الشيخ أحمد ياسين، بل يدعو إلى مُواصلة الجهاد والمضي على نفس الدرب، داعيًا إلى رصِّ الصفوف والتَّلاحم ما بين كل المسْلمين في كلِّ مشارق الأرض ومغاربها:
يَا زَهْرَةَ اللَّهَبِ المُدَوِّي ثَوْرَةً ** رُصِّي الصُّفُوفَ لِيَرْحَلَ الغُرَبَاءُ
يَا قَلْعَةَ البُرْكَانِ فِي وَجْهِ العِدَا ** يَحْمِي حِمَاكِ القَادَةُ الأُمَنَاءُ
وَكَتَائِبُ القَسَّامِ فِي كُلِّ الدُّنَا ** لِلقُدْسِ جُنْدٌ لِلجِهَادِ عَطَاءُ
وَجُمُوعُ كُلِّ المُسْلِمِينَ قَوَافِلٌ ** فِي زَحْفِهَا دَيْمُومَةٌ وَفِدَاءُ
تَمْضِي عَلَى كُلِّ الدُّرُوبِ يَضُمُّهَا ** فِي طَلْعَةِ الفَجْرِ الأَبِيِّ لِقَاءُ [7]
إنَّه الفجر القادم رغْم كل المآسي والآلام، فإنَّه موعد النَّصر والتَّمكين، ولأنَّ تألُّق الأبطال لا يَخبو مهما طال أسْرهم، أو عجل قتلهم، فيظلُّون ضياء النَّصر في ظلام الليل أو في وضح النَّهار:
يَا بَاقَةَ الأَبْطَالِ فِي تَارِيخِنَا
يَا أَنْجُمًا فِي حَالِكَاتِ الظُّلْمَةِ
العَمْيَاءِ لا تَخْبُو وَلا يَهْتَزُّ مِنْهَا
الضَّوْءُ مَهْمَا أَطْبَقَ الإِظْلامُ
أَوْ مَهْمَا تَوَهَّجَ بَيْتَهَا ضَوْءُ النَّهَارْ
أَنْتُمْ نُجُومُ النَّصْرِ فَوْقَ رُؤُوسِنَا
وَالنَّصْرُ لا يَخْفَى تَأَلُّقُهُ وَلَوْ
كَانَتْ سُجُونُ رُمُوزِهِ تَحْتَ البِحَارْ[8]
هل النُّجوم تظهر في النهار؟!
لكن نجوم النَّصر لا يحجبها النَّهار، ولا يخنقها الحصار، أو تغيِّبُها سجون الاحتلال، ولو كانت تحت البحار.
وأصبح الوطن السليب منبت الجراح، كيف لا وقد ترعرعت فيه؟! وأصبح لا يذكر سوى بالدُّموع والدماء في سيمفونيَّة بكاء وعشق لا ينتهيان.
عَاشِقٌ أَنْتَ يَا وَطَنُ الجِرَاحْ
وَقَلْبُكَ الدَّامِي يُمَزِّقُهُ الهَوَى
تَأْتِي رِيَاحُ العِشْقِ مُفْعَمَةً
بِأَلْوَانِ الأَسَى
فِي صَدْرِكَ المَكْلُومِ تَنْطِقُ
كُلُّ حَبَّاتِ العُيُونْ
وَتُصَفِّقُ الأَكْبَادُ شَوْقًا
تَغْتَلِي فِيَّ السِّنِينْ
يَا كُلَّ آيَاتِ الحَنِينْ
هَذَا هُوَ الوَطَنُ الَّذِي
عَشِقَ الجِرَاحْ [9]
ويا قدس إنا قادمون مع كل إطلالة فجر، وبزوغ أمل من قلب كل مسلم، شبابًا وشيوخًا وأشبالاً، حادينا كتاب الله والذَّود عن مسرى رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
يَا قُدْسُ جَادَكَ غَيْثُ الحُبِّ يَنْهَمِرُ ** بُشْرَاكَ كُلُّ جُمُوعِ الحَقِّ تَنْتَشِرُ
بُشْرَاكَ مِنْ كُلِّ قَلْبٍ فِي تَوَقُّدِهِ ** نَارُ البَرَاكِينِ كَمْ تَغْلِي وَتَسْتَعِرُ
مِنْ كُلِّ لَيْثٍ عَلَى أَوْصَالِهِ انْتَحَرَتْ ** دُنْيَا العَذَابِ وَكُلُّ القَهْرِ يَنْتَحِرُ
مِنْ كُلِّ شِبْلٍ لَهُ فِي الحَرْبِ دَمْدَمَةٌ ** دَوَّى بِقَبْضَتِهِ المِقْلاعُ وَالحَجَرُ
يُرَتِّلُ الآيَ وَالذِّكْرَ الحَكِيمَ بِهِ ** صَدْرٌ يُقَدِّمُهُ إِنْ هَمَّكَ الخَطَرُ [10]
فيا قدس إنَّا قادمون.
ــــــــــــــــ
[1] ديوان "يا قدس إنا قادمون" قصيدة: سنظل نكتب بالدماء وباللهب ص 92،91.
[2] نفسه، قصيدة: عيون القدس ص 28،27.
[3] نفسه، قصيدة: "حماسيون" لا يغتالنا صدأ القيود ص 50.
[4] نفسه، قصيدة: القدس في نبض القلوب ص 29.
[5] نفسه، قصيدة: لقاء الشهادة ص 8.
[6] نفسه، قصيدة: لقاء الشهادة ص 9.
[7] نفسه، قصيدة: لقاء الشهادة ص 9.
[8] نفسه، قصيدة: يا باقة الأبطال يا أسد الوغى ص 105،104.
[9] نفسه، قصيدة "حماسيون" لا يغتالنا صدأ القيود ص 47.
[10] نفسه، قصيدة يا قدس إنا قادمون ص109.