.

 

القرية في ديوان (يا ساكنة القلب)
للشاعر الدكتور: عبدالرحمن بن صالح العشماوي

 

  القرية هي تجمُّع صغير لمجموعة مِن البيوت المتناثِرة أو المُتجاوِرة، تقع في سفح جبل أو بطن سهل، تحوط بها المدرَّجات أو الودْيان، وأشجار أو طوفان مِن رمال الصحراء، والقرية بعكْس المدينة لم تزَل مُحافِظة على بَكارتِها وترابُط أهلِها وأحلامهم البسيطة، وتكاليف حياتهم السَّهلة.

القرية تجمُّعٌ لم تصلْ إليه الطرُقات المعبَّدة، أو خدمات المياه والكهرباء والصرف الصحِّي، إنها الأرض بكل بَكارتها لم يُلوِّثها الإنسان بمدنيَّته، إنها هدوء المساء الجميل، والنشاط الدؤوب في الصَّباح الباكِر.

الزِّراعة والرَّعي أهمُّ الحِرف التي يُزاولها أهل القرية، ولكنَّ المدينة بدأت تَستنزِف أهل القرى لتحسين أوضاعهم بعد التطوُّر الهائل الذي تشهده الكُرة الأرضية، وكأنها أصبَحت - كما يقال - قريةً صغيرةً، بعد أن كانت قاراتٍ مُتطاوِلة.

ونُطوِّف في هذا الديوان الجميل للشاعر الدكتور: عبدالرحمن العشماوي؛ نتلمَّس فيه ملامح القرية، ونطوف بتفاصيلها ونرتع في رياضِها، نتنفَّس جمال هوائها وبَكارة نسيمِها، ونُحلِّق في بهائها، ونَرشُف مِن سَلسبيلِها.

يقول الشاعر عبدالرحمن العشماوي مُخاطِبًا قريته:

سلي الوادي

سلي

أزهاره النَّشوى

سلي العصفورَ

حين يُردِّد

الشَّدوا

سلي - إن شئتِ -

كِسرَة خُبزِنا السَّوداء

لذَّتَها..

تفيضُ المنَّ

والسَّلوى [1]

 ما أجملها مِن لذة؛ إنها حياة البَساطة والزهد، ومع البساطة كان حبُّ الآخَرين والإيثار، كان صفاء القلوب التي لا تَحمِل الحِقد أو الغلَّ لأحد، إنها القرية بكل صَفائها وعُذوبَتها وعَفويتها:

سلي أزهار وادينا

أتاها الفَجرُ

يَفضحُ فوقها

الطَّلَّا

ويُفصحُ عن مَفاتِنها

فما أحلى!

وما أغلى!

سلي - إن شئتِ -

أفئدةً حَملْناها

ولم نَحمِل بها حِقدًا

ولا غلّا [2]

ولأن أغلب سُكَّان القرى يَشتغِلون بالرعي؛ يَرسم لنا الشاعر صورةً حيَّة لتدافُع الأغنام مع الفجر نحو المرعى ليَستعيد تلك الأيام الحُلوة، والذِّكريات المُمتِعة، والوشيجة الوطيدَة بين القرويِّ وأغنامِه:

سلي أغنامَنا سالَتْ

بها طرُقات

وادينا

تَسير ونحن نتْبَعها

ونَنضد مِن سَعادتها

أمانينا

سلي

طرقات قريَتِنا

سلي (العُثْرُب)

و(السنَّوت) و(الشيحا)

أما زالتْ على عِلمٍ

بماضينا؟![3]

ومع الفجر الذي كان نقطة البداية ليومٍ تَمتزِج فيه المشاعر مع نُورِه الدفاق يَغمر الكون، والحداء الذي يُنعش النفس، تهتزُّ له روابي الوديان مُترنِّمة مُنتشيَة لتَنقلِب إلى ذِكرى قديمة تبعث الحزن والألم بعد أيامٍ أولى من السعادة والابتهاج.

سلي

الفجْر الذي كنَّا

نُسابِقه إلى

الوادي

ونَمزج نورَه الصافي

بألحانٍ سَكبناها

تُغيضُ البُلبلَ

الشادي

سلي

أيامَنا الأولى

غدَت ذِكرى تُعذِّبنا

وكانتْ رمزَ

إسعادِ! [4]

ويرحَل الشاعر ليَرسم لوحة بديعةً، إنها حوارٌ بينه وبين الجبَل الذي يَحضن قريتَه وعاش في أكنافه، يسأله إن كان يَذكُره أم أنَّ تَعاقُب السنَوات قد أفقَده ذاكِرته بكلِّ مَن مرَّ على جنباته؟

أتذكرني أيها الجبَل الشهْم؟

أتذكر وجْهي ولونَ ثِيابي؟!

أَتذكُر خَوفي إذا ما صعدتُ إليك؟

وطولَ اضطرابي؟

أتذكر طِفلاً صغيرًا....

يُعلِّمُك القفزَ فوق الهِضابِ؟

أَتذكُره حين كان يَجيء إليك...

ليُمسِك ذَيل السَّحابِ...؟! [5]

إنها ذكريات القرية، وما أحلاها تلك الأيام الأولى في حُدود السَّكينة وعُنفوان الرِّضا؛ إنه التلاحُم العجيب بين الإنسان وقريتِه؛ في كل شبرٍ منها كانت له حكاية، وفي كل وجهٍ كانت هناك ذِكرى؛ وكانت المدرَسة قصَّة أخرى، وإن كانت فُصولها مِن الطين والخشب، أو فصلاً مفتوحًا تُظلِّله شجرة كبيرة:

أتذكُره..

حين كان يَسير أمامك وقت الصبَّاح إلى المدرسة؟

أتذكر خُبزتَه اليابِسة؟

أتذكر نظرةَ أستاذِه العابِسة؟

أَتذكُر فرحتَه حينما تنتهي الحصَّة السادِسة؟[6]

إنها حياة القرية: الخبز اليابس، والأستاذ الذي يتصنَّع العبوس والوقار ليَصنع لنفسِه الهَيبة، والفرحة العارِمة التي كانت تجتاح الطلاب وهم يُغادِرون المدرسة إلى بيوتهم بعد انتهاء الحصص الدراسية.

ولأنَّ المدنية عمَّت أكثر الأرجاء تبدَّلت حال القرية، ذلك التجمُّع الهادئ الذي ينتهي كل شيء فيه بعد صلاة العِشاء لتنهض عند الفجر ليوم جديد، مما يَستفزُّه لتعود القرية كما كانت عليه مِن قبل:

ألا ليتَ قريَتنا الغالية

تعود لحالتِها الماضية

تَنام بُعيدَ صلاة العشاء

وتصحو قبيل انبِثاق الضياء

تنام..

وفي شفتَيها دعاء

وتصحُو...

وفي شفتَيها دعاء

ويُطربها حين ينبثقُ الفجرُ، صوت الرُّغاءْ..

وصوتُ الثُّغاءْ

وصوتُ العصافيرِ تُنشدُ عذبَ الغناءْ

ألا ليت قريتنا ترجعُ - اليوم -

نحو الوراءْ.. [7]

وعند الرحيل ومُغادرة القرية للضياع في بحْر المدينة المتلاطم تبقى الذكرى لأحلام لم تأتِ، وآلام لم تذبل، وهكذا هي الدنيا:

رحلنا..!

هكذا الدنيا

رحيلٌ

ليس ينقطعُ

فلا أحلامنا

جاءت

ولا آلامنا

تدعُ

تفرِّقنا أمانينا

فنغدو خلفا

نسعى..

وعند اللهِ

نجتمعُ.. [8]

هذه القرية في ديوان "يا ساكنة القلب" للدكتور: عبدالرحمن العشماوي استجلَينا بعض ملامِحها وما تزخر به مِن الطِّيبة والهدوء، وبَكارة الأفكار والأرض والإنسان في هذه الطِّيافة السريعة، سبحانك ربَّنا رب العزة عما يَصفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمد لله ربِّ العالمين.

 

 


[1]"ديوان يا ساكنة القلب"؛ للدكتور: عبدالرحمن العشماوي ط:1، 1423هـ - 2002م، مكتبة العبيكان، الرياض، أنشودة القرية (ص: 14).

[2] نفسه، "أنشودة القرية"، (ص: 14، 15).

[3] نفسه، "أنشودة القرية"، (ص: 16،15).

[4] نفسه، "أنشودة القرية"، (ص: 17).

[5]نفسه، "ألا أيها الجبل الشهم"، (ص: 40).

[6] نفسه، "ألا أيها الجبل الشهم"، (ص: 41).

[7] نفسه، "ألا أيها الجبل الشهم"، (ص: 52، 51).

[8] نفسه، "أنشودة القرية"، (ص: 20،19).